التّوجيه المهني
في الجزائر، كيف نفهمه؟
قلم: أحمد بلقمري. مستشار التّوجيه و التّقييم و الإدماج المهنيين
المقابلة مع مستشار التّوجيه و التّقييم و الإدماج المهنيين |
اعتمد
المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية و العلم و الثقافة في دورته الخامسة و
العشرين بباريس في 10 نوفمبر 1989 اتفاقية بشأن التعليم التقني و المهني أولت
أهميّة لدور التّوجيه في تنمية الموارد البشرية، كما أوصت بضرورة تصميم التّعليم
التقني و المهني بحيث يجري في إطار بنى قابلة للتّطويع و مرنة في سياق التعليم
المستمر، بما يكفل تحقيق تقديم التوجيه التربوي و المهني و توفير المعلومات و
إسداء المشورة بشأن القدرات. كما خصّص تقرير التعليم و التّدريب في المجال التقني
و المهني للقرن الحادي و العشرين سنة 2002 فصلا كاملا للتّوجيه وهذا اعتراف من
اليونسكو و منظمة العمل الدولية(بصفتهما الجهة التّي أصدرت هذه التّوصيات) بأنّ
التوجيه أضحى تحدّيا اقتصاديّا، اجتماعيّا و إنسانيّا متناميا مهما كان الجمهور أو
السّن.
لكن كيف نفهم التّوجيه المهني في
الجزائر؟، و هل استطاع صنّاع القرار أن يفهموا بدورهم تحديّات التّوجيه المهني
أمام تطوّرات الشّغل (نقصد تحوّلات الشّغل و سوق العمل)، و تطوّر مستويات التّكوين
على الأقل في العشرين سنة الأخيرة؟، و هل هناك خيارات سياسيّة مطروحة في هذا
المجال؟.
التّوجيه المهني
كخدمة عموميّة
ينظر
للتّوجيه المهني في الجزائر على أنّه خدمة عموميّة، لكن هذه النّظرة لم تكن متماشية
مع البحث عن تحسين نوعية هذه الخدمة، ففي الوقت الذّي تتّجه فيه الدّول المتطوّرة
إلى تنمية التّوجيه المهني مدى الحياة، وتسعى من خلال حقول و أدوات البحث إلى كشف
الكفاءات و القذف بها إلى الحياة العمليّة، لا نزال نحن متردّدين بشأن أهميّة
الدّور الذّي يمكن أن يلعبه التّوجيه المهني في المستقبل. صحيح أنّ تنظيم التّوجيه
المهني في الجزائر لا يزال مشتّتا جدّا، و أقلّ وضوحا، بل تبقى فعاليته صعبة
القياس لكنّ هذا يدعو إلى العمل أكثر في المستقبل على وضع أسس متينة للتّوجيه و
الإرشاد المهنيين حتّى نستطيع مواجهة التّحدي الاقتصادي، الاجتماعي والإنساني
المتنامي.
يقع
التّوجيه المهني في مفترق الطّرق بين آمال الأفراد و حاجاتهم الاجتماعية، و هذا
يتطلّب في كلّ مراحل الحياة وضع هذه الخدمة العموميّة في متناولهم. إنّنا نتّجه
صوبا نحو اقتصاديات و مجتمعات مؤسّسة على المعرفة و التأهيل، مجتمعات مؤسسة على أهداف
جديدة و تحديّات تقييم الموارد الإنسانية و موارد التكوين لذلك ينبغي أن نعرف
بالضّبط ما الذّي يتوجّب علينا فعله في مجال التّوجيه المهني. إنّ رسم سياسة
للتّوجيه المهني مدى الحياة سيجعلنا أكثر قدرة على التحكّم في البنى، التمويل، و
اتّخاذ القرار.
لقد
بذلت الدّولة الجزائريّة منذ سنة 1962، أي منذ استرجاع السّيادة الوطنيّة مجهودات معتبرة
في ميدان التّوجيه و الإرشاد المهنيين، فبعد أن كان انتقاء و توجيه المترشّحين يعتبر
مشكلا حقيقيّا على اعتبار أنّ الجزائر ورثت عن الحقبة الاستعماريّة طرائق عمل في
هذا المجال يعود تاريخها إلى سنة 1945(عنت "مصلحة التّكوين المهني"
المسيّرة من طرف " الديوان الجهوي للعمل بالجزائر (ORTA) بتكوين اليد العاملة المؤهّلة في
قطاع البناء والأشغال العموميّة لتلبية حاجيّات الاقتصاد الفرنسي)، جاء استحداث مراكز
الانتقاء البسيكوتقني ليكون بمثابة اللّبنة الأولى في مسار العناية
بالأفراد و استهداف نجاحهم و توافقهم مع العمل أو المهنة. لقد شملت سياسة التوجيه
إلى وقت قريب الشّباب من تلاميذ المدارس، و الشّباب في حالة خطر، لكنّها في ذات
الوقت لم تول العناية الكافية بالرّاشدين دون عمل، و العاملين منهم، و الرّاشدين
المسنّين، و هذا ما أوجد خللا في الاستفادة من الخدمة العموميّة للتّوجيه و
الإرشاد المهنيين، بل أخلّ بإحدى القواعد الهامّة في المجتمع ألا و هي مبدأ تكافؤ
الفرص والعدالة الاجتماعيّة، لذلك يتوجّب البحث من الآن عن حلول لتطوير الدّخول
إلى خدمات التّوجيه المهني و جعلها في متناول الجميع بما في ذلك الفئات المحرومة.
و ضع الأفراد في
مركز مجتمع المعرفة و الكفاءات
علينا
أن نعترف بأنّ التوجيه المهني لا يحلّ كلّ المشاكل، لكن في المقابل يبقى واحدا من
الضّمانات القادرة على التّوفير الدّائم و المستمر للمعلومات حول المهن و فرص
التّكوين و التأهيل المهنيين، كما يسمح بمساعدة الأفراد مهما كانت مستوياتهم و
أعمارهم على معرفة قدراتهم، كفاءاتهم، و ميولهم، و اتّخاذ القرارات التّعليميّة
والتّدريبيّة و المهنية و إدارة مسارات حياتهم المهنية أو العمليّة. إنّ العالم
يتغيّر من حولنا بشكل متسارع، والمجتمع بدوره يتطوّر بديناميكيّة أسرع لذلك ينبغي
مواكبة هذا التّطوّر من خلال ضمان تعليم و تكوين بهدف العمل في مجتمع المعرفة، هذه
الاستراتيجيّة تتطلّب فهما و عملا حثيثا من طرف كلّ الفاعلين في نظام التّوجيه
المهني. ينبغي أن نشير هنا إلى نقطة بالغة الأهميّة، إنّها تلك المتعلّقة بضرورة
تكييف التّكوين المهني مع المتطلّبات الاقتصاديّة؛ يجب أن لا ينسينا هذا الهدف
ضرورة المرور بطور التّوجيه و الإرشاد المهنيين و احترام ما يقدّمه مستشار
التّوجيه من خدمات في هذا الإطار، إنّ العناية بحاجات الأفراد و اهتماماتهم
وميولهم يعتبر ذا أولويّة بالمقارنة مع متطلّبات سوق العمل. إنّ حسن توزيع و
استغلال الموارد البشريّة يعدّ أفضل استثمار على الإطلاق، بل يتيح الاستفادة
المثلى من الطّاقات الكامنة، و يحرّر السّواعد الدّافعة لعجلة النّمو الاقتصادي.
إصلاح نظام
التّوجيه، هل يعتبر ضرورة؟
لا
شكّ في أنّ إصلاح نظام التّوجيه قد أصبح ضرورة ملحّة بل أولويّة بالنسبة لقطاع
التّكوين و التّعليم المهنيين في الجزائر لما في ذلك من توفير للموارد المالية و
البشريّة، خاصّة و أنّ مؤشّرات كثيرة تدعو إلى ذلك بإلحاح، من بينها الاستخدام اللامتناهي
لتكنولوجيا المعلومات و الاتّصال في شتّى المجالات، و ما يتبع ذلك من حاجة الأفراد
إلى الولوج إلى المعلومات عبر الوسائط غير التّقليدية، غير الماديّة كالإنترنيت و
الهاتف، كما يلعب الترابط الوثيق بين مختلف المجالات (التّوجيه المهني، الإعلام،
الشّغل، المدرسة) دورا في زيادة الحاجة إلى خطاب موحّد لعديد المشتغلين بالتّوجيه
و الإرشاد المهنيين بما يدعّم حرفنتهم و قدرتهم على تقديم النّصح و الإرشاد. كما
ينبغي أن يعنى إصلاح نظام التّوجيه بخلق فضاءات رحبة لاستقبال، إعلام و توجيه
الجمهور العريض من جهة(و هذا لتحسين نوعيّة الخدمة العموميّة لفائدة الجمهور)، و
خلق أماكن تبادل و تنشيط خاصة بالمشتغلين في ميدان التّوجيه و الإرشاد المهنيين، نقصد
هنا إنشاء مراكز للتّوجيه و الإرشاد المهنيين على المستوى الوطني، الجهوي والمحلّي
لتجسيد مضمون إصلاح نظام التّوجيه، و وضع الأدوات القادرة على تقييم مدى فعاليته و
وضع حيّز التنفيذ الوسائل و الموارد المساعدة على قابلية تطبيقه، كما ينبغي أن
يكون من بين أهداف هذه المراكز تكوين مستشاري التّوجيه والتّقييم و الإدماج
المهنيين و تحسين مستواهم.
إنّ
إنجاح أيّ سياسة أو العمل في إطار منهجيّة محدّدة للتّوجيه و الإرشاد المهني
يتطلّب الاهتمام بنواة هذا المشروع و محور كلّ العمليات السّالفة الذّكر، إنّه مستشار
التّوجيه و التّقييم و الإدماج المهنيين الذّي يعتبر همزة وصل بين الفرد و فهمه
لحاجاته و ميوله و تطلّعاته و آماله المنعقدة على الحياة العمليّة، فهو يقوم
بتزويد الأفراد بالشّروح الدّقيقة ككتابة
السّيرة الذاتية، رسالة الدّافعية، سير المقابلة، إجراءات البحث عن الشّغل،
واستخدام موارد مكاتب الاستقبال، الإعلام و التّوجيه. يساعد مستشاري التّوجيه في
مهامهم أعوان الاستقبال المكلّفين بالإجابة عن أسئلة طالبي التّكوين، تسجيل مواعيد
مقابلتهم مع مستشاري التّوجيه، و تسجيلهم لمتابعة تكوين مهني، كما لا ننسى دور
الطّاقم الإداري، و الأساتذة المكوّنين و مُعلمّي التّمهين، و العمال المهنيّين، و
الأولياء، و العائلات، والأصدقاء المقرّبين، و كلّ المحيطين بالفرد المُتكوّن بما
يسمح بتكوينه في أحسن الظّروف.
ليست هناك تعليقات:
اكتب commentsملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.